فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والأشرف من فاز به والأرذل من حرمه، ومثل هؤلاء في الجهل كثير من أهل هذا الزمان عافانا الله سبحانه مما هم فيه من الخذلان والحرمان وكان القوم على ما في بعض الأخبار حاكة وأساكفة وحجامين وأرادوا بقولهم: {بَادِىَ الرأى} ظاهره وهو ما يكون من غير تعمق، والرأي من رؤية الفكر والتأمل، وقيل: من رؤية العين وليس بذاك.
وجوز أن يكون البادي بمعنى الأول، وهو على الأول من البدو، وعلى الثاني من البدء، والياء مبدلة.
من الهمزة لانكسار ما قبلها وقد قرأ أبو عمرو وعيسى الثقفي بها، وانتصابه على القراءتين على الظرفية لاتبعك على معنى اتبعوك في ظاهر رأيهم أو أوله.
ولم يتأملوا ولم يتثبتوا ولو فعلو ذلك لم يتبعوك وغرضهم من هذا المبالغة في عدم اعتبار ذلك الاتباع وجعل ذلك بعضهم علة الاسترذال وليس بشيء، وقيل: المعنى إنهم اتبعوك في أول رأيهم أو ظاهرة وليسوا معك في الباطن.
واستشكل هذا التعلق بأن ما قبل: {إِلا} لا يعمل فيما بعدها إلا إذا كان مستنثى منه نحو ما قام إلا زيدًا القوم أو مستثنى نحو جاء القوم إلا زيدًا أو تابعًا للمستنثى منه نحو ما جاءني أحد إلا زيدًا خير من عمرو، و: {بَادِىَ الرأى} ليس واحدًا من هذه الثلاثة في بادي الرأي؛ وأجيب بأنه يغافر ذلك في الظرف لأنه يتسع فيه ما لا يتسع في غيره، واستشكل أمر الظرفية بأن فاعلًا ليس بظرف في الأصل، وقال مكي: إنما جاز في فاعل أن يكون ظرفًا كما جاز في فعيل كقريب، ومليء لإضافته إلى الرأي وهو كثيرًا ما يضاف إلى المصدر الذي يجوز نصبه على الظرفية نحو جهد رأيي أنك منطلق.
وقال الزمخشري: وتابعه غيره أن الأصل وقت حدوث أول أمرهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه، ولعل تقدير الوقت ليكون نائبًا عن الظرف فينتصب على الظرفية، واعتبار الحدوث بناءًا على أن اسم الفاعل لا ينوب عن الظرف وينتصب والمصدر ينوب عنه كثيرًا فأشاروا بذكره إلى أنه متضمن معنى الحدوث بمعنييه فلذا جاز فيه ذلك، وليس مرادهم أنه محذوف إذ لا داعي لذلك في المعنى على التفسيرين، وما ذكروه هنا من أن الصفات لا ينوب منها عن الظرف إلا فعيل من الفوائد الغريبة كما قال الشهاب لكن استدركه باملنع لأن فاعلا وقع ظرفًا كثيرًا كفعيل، وذلك مثل خارج الدار، وباطن الأمر وظاهره، وغير ذلك مما هو كثير في كلامهم، وقيل: هو ظرف لنراك أي ما نراك في أول رأينا أو فيما يظهر منه، وقيل: لاراذلنا أي أنهم أراذل في أول النظر أو ظاهره لأن رذالتهم مكشوفة لا تحتاج إلى تأمل.
وقيل: هو نعت لبشرًا وقيل: منصوب على أنه حال من ضمير نوح في: {اتبعك} أي وأنت مكشوف الرأي لا حصافة فيك، وقيل: انتصب على النداء لنوح عليه السلام أي يا بادي الرأي أي ما في نفسك من الرأي ظاهر لكل أحد، وقيل: هو مصدر على فاعل منصوب على المفعولية المطلقة والعامل فيه ما تقدم على تقدير الظرفية.
{وَمَا نرى لَكُمْ} خطاب له عليه السلام ولمتبعيه جميعًا على سبيل التغليب أي وما نرى لك ولمتبعيك.
{عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} أي زيادة تؤهلكم لاتباعنا لكم، وعن ابن عباس تفسير ذلك بالزيادة في الخلق والخلق، وعن بعضهم تفسيره بكثرة الملك والملك، ولعل ما ذكرناه أولى، وكأنّ مرادهم نفي رأية: {فَضَّلَ} بعد الاتباع أي ما نرى فيك وفيهم بعد الاتباع فضيلة علينا لنتبع وإلا فهم قد نفوا أولًا أفضليته عليه السلام في قولهم: {مَا نَرَاكَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر والمجاهدون في سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ} لهم علهم، وقيل: إن هذا تأكيد لما فهم أولًا، وقيل: الخطاب لأتباعه عليه السلام فقط فيكون التفاتًا أي ما نرى لكم علينا شرف في تلك التبعية لنوافقكم فيها، وحمل الفضل على التفضل والإحسان في احتمالي الخطاب على أن يكون مراد امللأ من جوابهم له عليه السلام حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه أنا لانتبعك ولا نترك ما نحن عليه لقولك لأنك بشر مثلنا ليس فيك ما يستدعي نبوتك وكونك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا بذلك وأتباعك أراذل اتبعوك من غير تأمل وتثبت فلا يدل اتباعهم على أن فيك ما يستدعي ذلك وخفي عنا، وأيضًا لست ذا تفضل علينا ليكون تفضلك داعيًا لنا لموافقتك كيفما كنت ولا أتباعك ذوو تفضل علينا لنوافقهم وإن كانوا أراذل مراعاة لحق التفضل، فإن الإنسان قد يوافق الرذيل لتفضله ولا يبالي بكونه رذيلًا لذلك مما يدور في الخلد إلا أن في القلب منه شيئًا: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين} جميعًا لكون كلامكم واحدًا ودعوتكم واحدة أو إياك في دعوى النبوة وإياهم في تصديقك، قيل: واقتصروا على الظن احترازًا منهم عن نسبتهم إلى المجازفة كما أنهم عبروا بما عبروا أولًا لذلك مع التعريض من أول الأمر برأي المتبعين ومجاراة معه عليه السلام بطريق الآراء على نهج الإنصاف. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [25].
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} وكانت امتلأت الأرض من شركهم وشرورهم: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: بأني، وقرئ بالكسر. أي: فقال إني لكم نذير مبين، أبين لكم موجبات العذاب، ووجه الخلاص منه.
{أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ} (الباء) مقدرة هنا للتعدية، و(لا) ناهية أي: أرسلناه متلبسًا بالنهي عن عبادة غير الله: {إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ} أي: إن عبدتم غيره: {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أي: مؤلم في الدنيا والآخرة.
{فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ} أي: السادة والكبراء: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا} أي: لست بملك، ولكنك بشر، فكيف أوحي إليك من دوننا.
قال القاشاني: أي: فقال الأشراف المليئون بأمور الدنيا، القادرون عليها، الذين حجبوا بعقلهم ومعقولهم عن الحق: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا} لكونهم ظاهريين، واقفين على حد العقل المشوب بالوهم، المتحير بالهوى، الذي هو عقل المعاش، ولا يرون لأحد طورًا وراء ما بلغوا إليه من العقل، غير مطلعين على مراتب الاستعدادات والكمالات، طورًا بعد طور، ورتبة فوق رتبة، إلى ما لا يعلمه إلا الله، فلم يشعروا بمقام النبوة ومعناها.
{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} أي: فقراؤنا الأدنون منا؛ إذ المرتبة الرفعة عندهم بالمال والجاه ليس إلا، كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}.
وقوله تعالى: {بَادِيَ الرَّأْيِ} أي: بديهة الرأي؛ لأنهم ضعاف العقول، عاجزون عن كسب المعاش، ونحن أصحاب فكر ونظر. قالوا ذلك لاحتجابهم بعقلهم القاصر عن إدراك الحقيقة والفضيلة المعنوية؛ لقصر تصرفه على كسب المعاش، والوقوف على حده. وأما أتباع نوح عليه السلام، فإنهم أصحاب همم بعيدة، وعقول حائمة حول القدس، غير ملتفتة إلى ما يلتفت غيرهم إليه، فلذلك استنزلوا عقولهم واستحقروها.
تنبيه:
{بادي} قرأه أبو عَمْرو بالهمزة، والباقون بالياء.
فأما الأول: فمعناه أول الرأي. بمعنى أنه صدر من غير روية وتأمل، أول وهلة.
وأما الثاني: فيحتمل أن أصله ما تقدم، فقلبت الياء عن الهمزة تخفيفًا، ويحتمل أنها أصلية من بدا يبدو، كعلا يعلوا. والمعنى: ظاهر الرأي دون باطنه، ولو تؤمل لعرف باطنه، وهو في المعنى كالأول. وعلى كليهما هو منصوب على الظرفية. والعامل فيه إما {نراك} أو {اتبعك}.
قال الناصر: زعم هؤلاء أن يحجوا نوحًا بمن اتبعه من وجهين:
أحدهما: أن المتبعين آراءه ليسوا قدوة ولا أسوة.
والثاني: أنهم مع ذلك لم يترووا في إتباعه، ولا أمعنوا الفكرة في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا روية، وغرض هؤلاء ألا تقوم عليهم حجة بأن منهم من صدقة وآمن به- انتهى-.
أي وكلا الوجهين يبرهنان على جهلهم وقصر عقلهم، أما الأول فلا خفاء في أنه ليس بعارٍ على الحق رذالة من اتبعه، بل أتباعه هم الأشراف ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأدنون ولو كانوا أغنياء. وفي الغالب ما يتبع الحق إلا ضعفة الخلق، كما يغلب على الكبراء مخالفته، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] ولما سأل هرقل ملك الروم، أبا سفيان عن نعوت النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل.
وأما الثاني: فإن البدار لاعتناق الحق من أسمى الفضائل؛ لأن الحق إذا وضح فلا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، ولابد من إتباعه حالتئذ لكل ذي فطنة، ولا يتردد إلا غبي أو عيي، ولا أجلى مما يدعو إليه الرسل عليهم السلام.
وقوله تعالى: {وَمَا نَرَى لَكُمْ} خطاب لنوح وأتباعه: {عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} أي: تقدم يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة؛ لأن الفضل محصور عندهم بالغنى والمال.
قال الزمخشري: كان الأشراف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك، ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم. ولقد زل عنهم أن التقدم في الدنيا لا يقرب أحدًا من الله، وإنما يبعده ولا يرفعه، بل يضعه، فضلًا عن أن يجعله سببًا في الاختيار للنبوة، والتأهيل لها، على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة، مصغرين لشأن الدنيا، وشأن من أخلد إليها، فما أبعد حالهم عليهم السلام من الاتصاف بما يبعد من الله، والتشرف بما هو ضعة عند الله!
وقوله تعالى: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} أي: فيما تدعونه من الإصلاح وترتب السعادة والنجاة عليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}
انتقال من إنذار المشركين ووصف أحوالهم وما ناسب ذلك إلى موعظتهم بما أصاب المكذبين قبلهم من المصائب، وفي ذلك تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم بما لاقاه الرّسل عليهم السّلام قبله من أقوامهم.
فالعطف من عطف القصة على القصة وهي التي تسمى الواو الابتدائية.
وأكدت الجملة بلام القسم و: {قد} لأن المخاطبين لما غفلوا عن الحذر مما بقوم نوح مع مماثلة حالهم نزلوا منزلة المنكر لوقوع رسالته.
وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة: {إني} بكسر الهمزة على أنه محكي بفعل قول محذوف في محل حال، أي قائلًا.
وقرأه ابن كثير، وأبو عَمرو، والكسائي، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف بفتح الهمزة على تقدير حرف جرّ وهو الباء للملابسة، أي أرسلناه متلبسًا بذلك، أي بمعنى المصدر المنسبك من (أني نذير)، أي متلبسًا بالنذارة البيّنة.
وتقدم الكلام على نوح عليه السلام وقومه عند قوله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحًا} في آل عمران (33).
وعند قوله: {لقد أرْسلْنا نُوحًا إلى قوْمه} في سورة الأعراف (59).
وجملة: {ألا تعبدوا إلاّ الله} مفسرة لجملة: {أرسلنا} لأن الإرسال فيه معنى القول دون حروفه، ويجوز كونها تفسيرًا ل: {نذير} لما في: {نذير} من معنى القول، كقوله في سورة نوح (2، 3): {قال يا قوم إني لَكمْ نَذير مبين أن اعبدوا الله واتّقوه} وهذا الوجه متعين على قراءة فتح همزة (أني) إذا اعتبرت (أنّ) تفسيرية.
ويجوز جعل (أنْ) مخففة من الثقيلة فيكون بدلًا من: {أني لكم نذير مبين} على قراءة فتح الهمزة واسمها ضمير شأن محذوفًا، أي أنّه لا تعبدوا إلاّ الله.
وجملة: {إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} تعليل ل: {نذير} لأن شأن النذارة أن تثقل على النفوس وتخَزُهم فكانت جديرة بالتعليل لدفع حرج ما يلاقونه.
ووصف اليوم بالأليم مجاز عقلي، وهو أبلغ من أن يوصف العذاب بالأليم، لأن شدة العذاب لما بلغت الغاية جعل زمانه أليمًا، أي مؤلمًا.
وجملة: {أخاف عليكم} ونحوها مثل أخشى عليك، تستعمل للتوقّع في الأمر المظنون أو المقطوع به باعتبار إمكان الانفلات من المقطوع به، كقول لبيد:
أخشى على أربَد الحتوف ولا ** أخشَى عليه الرياح والمَطرا

فيتعدّى الفعل بنفسه إلى الخوف منه ويتعدى إلى المخوف عليه بحرف (على) كما في الآية وبيت لبيد.
و(العذاب) هنا نكرة في المعنى، لأنه أضيف إلى نكرة فكان محتملًا لعذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
فأما عذاب الدنيا فليس مقطوعًا بنزوله بهم ولكنه مظنون من نوح عليه السلام بناء على ما علمه من عناية الله بإيمان قومه وما أوحي إليه من الحرص في التبليغ، فعلم أن شأن ذلك أن لا يترك مَن عَصَوْه دون عقوبة.
ولذلك قال في كلامه الآتي: {إنما يأتيكم به الله إن شاء} [هود: 33] على ما يأتي هنالك.
وكان العذاب شاملًا لعذاب الآخرة أيضًا إن بقوا على الكفر، وهو مقطوع به لأنّ الله يقرن الوعيد بالدعوة، فلذلك قال نوح عليه السلام في كلامه الآتي: {وما أنتم بمعجزين} [هود: 33]، وقد تبادر إلى أذهان قومه عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث فلذلك قالوا في كلامهم الآتي: {فأتنا بما تعدنا إن كنتم من الصادقين} [هود: 32].
ولعلّ في كلام نوح عليه السّلام ما تفيدهم أنه توعدهم بعذاب في الدنيا وهو الطوفان.
{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا}
عطف قول المَلأ من قومه بالفاء على فعل: {أرسلنا} [هود: 25] للإشارة إلى أنهم بادروه بالتكذيب والمجادلة الباطلة لمّا قال لهم: {إني لكم نذيرٌ مبينٌ} [هود: 25] إلى آخره.
ولم تقع حكاية ابتداء محاورتهم إياه بـ (قال) مجردًا عن الفاء كما وقع في الأعراف لأن ابتداء محاورته إياهم هنا لم يقع بلفظ القول فلم يحك جوابهم بطريقة المحاورات بخلاف آية الأعراف.
والملأ: سادة القوم.
وتقدم عند قوله تعالى: {قال الملأ من قومه إنّا لنراك في ضلال مبين} في سورة [الأعراف: 60].
جزموا بتكذيبه فقدموا لذلك مقدمات استخلصوا منها تكذيبه، وتلك مقدمات باطلة أقاموها على ما شاع بينهم من المغالطات الباطلة التي روجها الإلف والعادة فكانوا يعدون التفاضل بالسؤدد وهو شرف مصطلح عليه قوامه الشجاعة والكرم، وكانوا يجعلون أسباب السؤدد أسبابًا مادية جسدية، فيسوّدون أصحاب الأجسام البَهْجة كأنهم خشب مسندة لأنهم ببساطة مداركهم العقلية يعظمون حسن الذوات، ويسوّدون أهل الغنى لأنهم يطمعون في نوالهم، ويسوّدون الأبطال لأنهم يُعدونهم لدفاع أعدائهم.
ثم هم يعرفون أصحاب تلك الخلال إمّا بمخالطتهم وإما بمخالطة أتباعهم فإذا تسامعوا بسيّد قوم ولم يعرفوه تعرّفوا أتباعَه وأنصاره، فإن كانوا من الأشراف والسادة علموا أنهم ما اتّبعوه إلا لما رأوا فيه من موجبات السيادة؛ وهذه أسباب ملائمة لأحوال أهل الضلالة إذ لا عناية لهم بالجانب النفساني من الهيكل الإنساني.
فلما دعاهم نوح عليه السّلام دعوةً علموا منها أنّه يقودهم إلى طاعته ففكروا وقدّروا فرأوا الأسباب المألوفة بينهم للسؤدد مفقودة من نوح عليه السلام ومن الذين اتّبعوه فجزموا بأنه غير حقيق بالسيادة عليهم فجزموا بتكذيبه فيما ادّعاه من الرسالة بسيادة للأمة وقيادة لها.
وهؤلاء لقصود عقولهم وضعف مداركهم لم يبلغوا إدراك أسباب الكمال الحق، فذهبوا يتطلّبون الكمال من أعراض تعرض للناس بالصدفة من سعة مال، أو قوة أتباع، أو عزة قبيلة.
وتلك أشياء لا يطرد أثرها في جلب النفع العام ولا إشعار لها بكمال صاحبها إذ يشاركه فيها أقل الناس عقولًا، والحيوان الأعجم مثل البقرة بما في ضرعها من لبن، والشاة بما على ظهرها من صوف، بل غالب حالها أنها بضد ذلك.
وربما تطلبوا الكمال في أجناس غير مألوفة كالجن، أو زيادة خلقة لا أثر لها في عمل المتصف بها مثل جمال الصورة وكمال القامة، وتلك وإن كانت ملازمة لموصوفاتها لكنّها لا تفيدهم أن يكونوا مصادر كمالات، فقد يشاركهم فيها كثير من العجماوات كالظباء والمَها والطواويس، فإن ارتقوا على ذلك تطلبوا الكمال في أسباب القوة والعزة من بسطة الجسم وإجادة الرماية والمجالدة والشجاعة على لقاء العدو.